09-03-2025, 05:57 AM
|
#2
|
|
رد: لماذا القدوة
منزلتها عند المسلمين
ليس خفيّاً أنّ فاطمة (عليها السلام) كانت الشخصية النسائية المقدّسة لدى المسلمين جميعاً. فإنّنا لو قرأنا ما كتبه علماء المسلمين من السُنّة والشيعة وما ألّفوه من كتب ورسائل مستقلة وغير مستقلّة بشأنها، لوجدنا أنّهم يتحدّثون عنها بكلّ تعظيم ومحبّة واحترام وإجلال، وما ذلك إلاّ لما تزخر به شخصيّتها من قِيَم أخلاقية راقية، ولما تحمله من طهارة روحية ومنزلة علمية، ما يجعلها مثلاً أعلى يحتذي به المسلمون، ولما عرفوه من القرآن الكريم وأقوال النبيّ الأمين التي بيَّنت مقامها ومنزلتها وأكّدت لزوم احترامها وتقديرها وتعظيمها والابتعاد عن كلّ ما يوجب إيذاءها وسخطها.
ولهذا وجدنا المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتعدُّد مللهم يلتقون على تقديسها، لا لأنّها ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل لأنّها حملت شخصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وتخلَّقت بأخلاقه.
فهذه عائشة زوج النبيّ تتحدّث عنها أنّها كانت الأصدق بعد أبيها ـــ كما سيأتي ـــ وعن أنس بن مالك أنّه لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من الحسن بن عليّ وفاطمة(1).
وهذا ابن مسعود وابن عبّاس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسلمان الفارسي.. وغيرهم من صحابة النبيّ، رووا في فضائلها ومناقبها وخصالها الكثير من الروايات وأثنوا عليها غاية الثناء.
وهكذا حال التابعين وتابعيهم من أصحاب الصحاح والمسانيد، كالبخاري ومسلم والحاكم النيسابوري والبغوي، وابن عبد البرّ وابن حجر صاحب الصواعق المحرقة وغيرهم من الأعلام(1)، فقد عقدوا في كتبهم فصولاً وبوَّبوا أبواباً لنقل ما ورد في شأنها وما فضَّلها الله به على مَنْ سواها.
ولأجل هذه المحبّة والقدسية التي يحملها المجتمع المسلم للزهراء (عليها السلام)، رأينا أنّه عندما هجم على دارها مَنْ هجم بقصد الإساءة وهدَّدوا بإحراق البيت، كان الاستنكار الوحيد أنّ في البيت فاطمة.. لم يقولوا إنّ في البيت عليّاً ولا الحسنين ولا زينب، بل إنّ فيه فاطمة، ما يدلّ على أنّها كانت تعيش في عمق وجدان المسلمين وتستحوذ على محبّتهم، حتّى أنّ كثيراً ممَّن هجَمَ على دارها مع المهاجمين كان قلبه ينبض بمحبّتها، ولهذا انصرف باكياً عندما سمع صوتها(2). وهكذا وجدنا المسلمين تفاعلوا مع خطبتها التي خطبتها بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وغصب الخلافة ومصادرة فَدَك، وتأثّروا كثيراً لكلامها، حتّى أنّه "لم يرَ النّاس أكثر باكٍ ولا باكية منهم يومئذٍ"(3).
العصمة
عندما نقدِّس الصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، فإنّنا لا نقدِّس انتسابها للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فحسب، وإنّما نقدِّس فيها صفاتها المثلى وخصالها الحميدة التي تجعلها قدوة نقتدي بها ونبراساً نستضيء بنوره، ومَثَلاً أعلى نسير على هديه ونستلهم منه الدروس والعِبَر، فقد انطلقت الزهراء البتول بعلمها وعبادتها وإخلاصها لله ورعايتها لرسول الله ولأمير المؤمنين حتّى ارتفعت إلى مقام العصمة وسمت إلى مرتبة القداسة، لا تدنِّسها الآثام ولا تقترب منها الذنوب، وتركت لنا المثل الأعلى عن المرأة التي عاشت حياتها من أجل الله وأغمضت عينيها مفارقةً الحياة وهي تلهج بذكر الله.
إنّنا نعتقد أنّ الزهراء (عليها السلام) معصومة عن الخطأ والزلل والسهو والنسيان، فلم ترتكب في حياتها معصية مهما كانت صغيرة.
ويمكن أن تستدلّ على عصمتها بثلاثة أدلّة تضاف إلى ما تقدّم من قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "فاطمة بضعة منّي مَنْ أغضبَها فقد أغضبَني".
الأوّل: إنّنا لو درسنا حياتها منذ ولادتها إلى حين وفاتها، حياتها مع أبيها ومع زوجها ومع أولادها ومع الناس جميعاً، لما وجدنا لها خطأً في فكر أو زلّة في قول أو اشتباهاً في فعل، فقد كانت حياتها (عليها السلام) تجسِّد العصمة أتمَّ تجسيد.
الثاني: إنّها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً، فتشملها آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] في ما تشمل من أهل البيت، وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، والذين كانت الآية دليلاً على عصمتهم. فآية التطهير هذه شهادة حقّ لا ينال منها الباطل على عصمة الزهراء (عليها السلام).
وعندما نستدلّ بآية التطهير على عصمتها، فهذا لا يعني أبداً أنّها وقبل نزول الآية لم تكن معصومة، بل كانت (عليها السلام) معصومة حتّى قبل نزولها عصمةً كاملة يشهد لها بها سلوكها، وآية التطهير إنّما جاءت لتكشف عن عصمتها لا أنّها تمنحها العصمة.
الثالث: إنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين كما جاء في الحديث المشهور عند الفريقين(1)، ولا يمكن أن تكون امرأة في مستوى سيّدة نساء العالمين إلاّ وتكون الإنسانة التي تعيش الحقّ كلّه في عقلها وقلبها وحركتها، ولا يمكن أن يزحف الباطل إلى شيءٍ منها في ذلك كلّه.
حقيقة العصمة:
إنّ رأينا في عصمة أهل البيت (عليهم السلام) بما فيهم الزهراء (عليها السلام)، هو أنّ الله سبحانه أودع فيهم من عناصر العلم والروح وخصائص القدس ما يذهب به الرجس عنهم ويحقِّق الطهارة فيهم، لقد أعطاهم نوراً يتحرَّكون فيه من خلال وعيهم لكلّ خطوط النور وآفاقه، وأعطاهم العلم والروحانية التي تلتقي بوعي الله ومعرفته، ووعي الإسلام في عمقه وامتداده، بحيث يتحرّكون بالطهر بوعي، ويبتعدون عن الشرّ بوعي، لأنّ هذه العناصر التي أعطيت لهم هي التي تعمِّق الوعي والإرادة فيهم، ولكنّها لا تحرّكهم تلقائياً وبغير اختيار. فلا يقولنَّ قائل إنّ معنى العصمة التكوينيّة المستفادة من الآية الشريفة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ...} تعني أنّ الله سبحانه يسلبهم الاختيار فيكونون الطاهرين بغير اختيارهم والبعيدين عن الرجس بغير اختيارهم، بحيث يتحرّكون بالطهر تحرُّكاً آلياً كما تتحرَّك الآلة من دون وعي، فإنّ هذا التوهُّم فاسد، لأنّا وإنْ قلنا إنّ الله هو الذي أودع فيهم عناصر القداسة والروحانية والعلم، لكنّ هذا لا يستلزم سلبهم الاختيار وأنْ يصيروا كالآلة الجامدة أو العصا في يد صاحبها، لأنّ هذه العناصر الآنفة تعمّق الوعي فيهم كما أسلفنا، لا أنّها تسلبهم الاختيار(1).
إذاً، كانت عصمة الزهراء (عليها السلام) عصمة إرادية انطلقت من وعيها ومن لطف الله الذي كرَّم وجهها عن السجود للأصنام وفعل المعاصي، كما كرَّم وجه زوجها عليّ (عليه السلام) عن السجود للأصنام قبل البعثة وبعدها، وهذا بخلاف كثير من رجال المسلمين ونسائهم ممّن سجدوا قبل الإسلام للصنم، أمّا الزهراء (عليها السلام) فكان سجودها لله منذ أن عرفت السجود، وكان ركوعها لله منذ أن عرفت الركوع، وكان قيامها تسليماً لله مذ عرفت القيام.
لماذا هم دون سواهم؟
وقد يقول قائل: لماذا أعطى الله أهل البيت (عليهم السلام) العصمة ولم يعطها لغيرهم؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بجوابين:
الأوّل: هو قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23].
الثاني: إنّ الله سبحانه وتعالى سخَّر الكون للإنسان وعمل على أن يصلح أمره في الدُّنيا والآخرة، وأعطى الكون شمساً لا ظلمة فيها، وأنزل للإنسان قرآناً منيراً، وقضت حكمته أن يخلق نماذج بشرية تكون نوراً متكاملاً في عقلها وقلبها وكلّ حركاتها، لتكون شمساً للإنسانية بإزاء القرآن، كما أنّ للكون شمساً ترفده بالضياء، فاختار من خلقه نماذج ليكونوا الشمس التي تبعث بالنور والهداية للإنسان كلّه {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص : 68]، {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 33]، اختار هؤلاء وجعلهم أنبياء وحمّلهم رسالاته، لأنّ مصلحة الإنسانية الغارقة في الظلمات أن يكون هناك إنسان يعمل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذه وظيفة الأنبياء، فهم الكتاب الناطق ويحملون معهم الكتاب الصامت، ليتكامل الكتابان ـــ الصامت والناطق ـــ ويسيران معاً في رحلة الهداية والتزكية {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ـــ ولا يكتفي بتلاوتها ـــ وَيُزَكِّيهِمْ ـــ بأنْ يعطيهم التزكية في قلوبهم وعقولهم وحياتهم ـــ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ـــ بما في الكتاب من أسرار ومفاهيم ـــ وَالْحِكْمَةَ ـــ في حركة الواقع} [الجمعة : 2]، فدور النبيّ هو دور الإبلاغ والتعليم والتربية والتزكية، حتّى يعطي الناس نوراً من عقله الذي هو عقل الكتاب، ونوراً من قلبه الذي هو قلب الكتاب، ونوراً من خُلقه الذي هو خلق القرآن، كما قالت زوجته عائشة "كان خُلُقه القرآن"(1)، ونوراً من حياته التي هي حركة الكتاب في الواقع. وهذا بعينه ينطبق على الأئمّة (عليهم السلام)، فإنّهم في معنى الإمامة امتداد للنبوّة: "يا عليّ أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(2)، فالإمامة نبوّة في المضمون لا العنوان، ودور الإمام كدور النبيّ، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وحراسة الإسلام وحياطته من كلّ تحريف أو تشويه أو ظلمة تزحف إليه، لهذا كان لا بدّ أن يعطى الإمام من اللّطف الإلهي ما يعطاه النبيّ.
سرّ عصمتها:
وهنا سؤالٌ آخر يفرض نفسه وهو: ما السرّ في عصمة الزهراء (عليها السلام) مع أنّها لم تكن في موقع النبوّة أو الإمامة الذي يحتّم ـــ بمقتضى ما تقدّم ـــ أن يكون صاحبه معصوماً، لأنّ مهمّته وهي تغيير العالم على صورة الحقّ، تفرض أن لا يكون فيه شيء من الباطل، ولكنّ الصدّيقة فاطمة (عليها السلام) لم تكن إماماً ولا نبيّاً ـــ وإنْ كانت بنت النبوّة وسرّ الإمامة، لأنّها والدة الأئمّة المعصومين وزوجة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـــ فما السرّ في عصمتها؟
أوّلاً: إنّ الله عندما لطف بالزهراء (عليه السلام) فأعطاها العصمة وأذهب عنها الرّجس وطهَّرها تطهيراً، أراد أن يوحي للناس رجالاً ونساءً أنّ المرأة يمكن أن ترتفع وتسمو في تكريم الله لها فتصل إلى أعلى المراتب وهي مرتبة العصمة.
ثانياً: إنّ الله يريد أن يجعل للمرأة دوراً في الحياة يقارب دور النبوّة والإمامة التي كانت من نصيب الرجال، فإنّ هذا ما نستوحيه من وصول المرأة ـــ كالزهراء ـــ إلى مرتبة العصمة المختصّة بالأنبياء.
ثالثاً: أراد الله أن يجعل المرأة، ممثّلة بالزهراء (عليها السلام)، مثلاً أعلى للناس جميعاً لتكون قدوة للنساء والرجال، والنموذج الأمثل الذي يحمل عقلاً نورانياً وقلباً نورانياً وعلماً ينفتح على الناس آخذاً بدور النبوّة والإمامة في هذه المجالات.
لقد كانت الزهراء (عليها السلام) معصومة لأنّ لها دوراً في طبيعة موقعها وفي امتداد تأثيرها في الحياة، ليُقال من خلال ذلك للمرأة بأنّ الله كرّمك وفتح أمامك الآفاق لترتقي وتصلي إلى أعلى المراتب إذا ما تحرّكت على خطى هذا النموذج واقتديت به، وليقال من خلالها للرجال إنّ عليكم أن تقتدوا بالمرأة المعصومة كما تقتدون بالرجل المعصوم، لأنّ الوصول إلى مقام العصمة لا فرق فيه بين الرجل والمرأة. فكما أنّ الرجل وصل إلى درجة العصمة من خلال الأنبياء والأوصياء، كذلك المرأة وصلت إلى هذه الدرجة من خلال الزهراء (عليها السلام) ومن خلال مريم قبل ذلك، وربّما نجد بعض النساء اللاتي لم تنزل فيهن آية عصمة ولكنّهن كنّ لا يبتعدن عن العصمة، كالسيدة زينب (عليها السلام) فإنّها بلغت مرتبة عالية في القداسة والطهارة، ومن الممكن لكلّ امرأة أن تقترب من العصمة عندما تعيش مسؤوليّتها أمام الله وأمام رسالتها.
وهكذا كرَّم الإسلام الزهراء (عليها السلام) ومن خلالها المرأة، كما كرَّم الرجل، كرَّمهما معاً من خلال تكريمه لإنسانيّتهما وعناصر الخير التي يختزنانها {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء : 70]، فالتكريم الإلهي ليس مختصّاً بالرجل، بل هو شامل لكلّ بني آدم على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأنواعهم، ذكوراً وإناثاً، بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً..
رواية مخالفة للقرآن:
ولهذا فإنّنا نرفض كلّ الروايات التي تحطّ من شأن المرأة وإنسانيّتها، كما نرفض الروايات التي تحطّ من شأن بعض الأقوام والأعراق، ونعتقد أنّ المعصوم لا يصدر عنه أمثال هذه الروايات المخالفة للقرآن الكريم.
فمن الروايات التي تحطّ من شأن المرأة ما نُسِبَ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "المرأةُ شرّ كلّها وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها"(1)، فإنّنا نشكّ أنّ هذه الكلمة للإمام عليّ (عليه السلام)، وذلك:
1 ـــ إنّ الإمام عليّ (عليه السلام) وسائر الأئمّة المعصومين ومن قبل جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، قد علّمونا أنّهم لا يقولون ما يخالِف كتاب الله، وأنّ كلّ ما ينسب إليهم ممّا يخالف كتاب الله فهو زخرف(2)، وهذه الرواية تخالِف كتاب الله، إذ كيف تكون المرأة شرّاً كلّها والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3]، ويقول: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10]. فالإنسان لم يخلق شرّيراً في أصل خلقته، بل خلق على {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30]، وفي الحديث الشريف: "كلّ مولود يولَد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه"(3).
2 ـــ ما المراد بكون المرأة شرّاً؟ هل ذلك باعتبار عنصر الإغراء، فالرجال يمثّلون عنصر إغراء للمرأة كما المرأة عنصر إغراء للرجل، وأغلب النساء يغريهنّ الرجال ويخدعونهنّ، وقد عبَّر أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهن الثناء
3 ـــ وعلى فرض أنّ عنصر الإغراء عندها شرّ، فكيف توصف المرأة بأنّها شرّ بقول مطلق والإغراء عنصر من عناصر شخصيّتها وليس جميع عناصرها؟ فهل فكرها شرّ، أو أنّ عاطفتها التي تحضن من خلالها أطفالها شرّ، وهل عباداتها شرّ؟!
4 ـــ ثمّ إذا كانت المرأة شرّاً كلّها، فكيف يعاقبها الله تبارك وتعالى إذا كان هو الذي خلقها كذلك؟! ألاَ يحقّ لها أن تحتجّ بالقول: أنتَ خلقتني من الشرّ وجعلتني شرّاً، فلمَ تعاقبني على فعل الشرّ وهو مودع في أصل خلقتي التي لا دخل لي فيها؟!
5 ـــ ما معنى "وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها"، هل من جهة الحاجة إليها في التناسل؟ فالرجل كذلك، فإنّه طرف في عملية التناسل فلمَ لم يكن شرّاً؟! وهل يعقل أن يكون الإنسان الذي يمثّل ضرورة شرّاً كلّه؟! فالشمس تمثّل ضرورة للحياة حتّى تستمر وتبقى، فهل يصحّ أن نقول إنّها شرّ؟!
6 ـــ على أنّنا نربأ بعليّ (عليه السلام) أن يتكلّم بهذه الطريقة، وسيرته تكذّب صدور هذه الكلمة عنه، لأنّه أكرم المرأة أيّما إكرام، وأحسن إليها أيّما إحسان، وهو العارف أنّ في النساء من يفيض الخير منهّن وأنّ في الرجال مَنْ هم في غاية الشرّ، وأنّ في النساء من تفوق الرجال أدباً وعلماً وعملاً.. وإنّ حياته مع الزهراء (عليها السلام) تؤكّد ذلك، فهو الذي أحبّها واحترمها وأجلَّها وآلمه فقدها أشدّ الإيلام، مع أنّها (عليها السلام) امرأة من النساء وإن امتازت عنهن بخصائص عديدة جعلتها تجسّد العصمة والطهارة والقداسة في أقوالها وأفعالها، ولكنّ هذا الامتياز يؤكّد المسألة ولا ينفيها، أي يؤكّد عدم صدور هذه الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنّها كلمة غير مفهومة ولا نجد لها محملاً صحيحاً، وإذا كان هناك مَنْ يحاول صرفها إلى امرأة بعينها لتكون "أل" التعريف عهديّة وليست للجنس، فهذا لا يصحّ، لأنّ الكلمة حسب ما يظهر منها واردة على نحو الإطلاق.
وقد قرأت في كتاب "بهجة المجالس" أنّ هذه الكلمة هي للمأمون العبّاسي، وربّما نسبت خطأً لأمير المؤمنين (عليها السلام).
وهناك روايات تحطّ من شأن بعض الأقوام، وقد تعرّضنا في أبحاثنا الفقهية إلى أنّها ممّا لا سبيل إلى الأخذ بها(1).
كراماتها
لا ريب أنّ هناك ظروفاً طبيعية قد كفلت النمو الروحي والعقلي للسيّدة الزهراء (عليها السلام) وغيرها من النساء الجليلات، وذلك مثل تربية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لها وتربية زكريا لمريم (عليها السلام)، ولكن إلى جانب ذلك هناك اللّطف الإلهي الذي كساها بالطهارة والقدسيّة وخصّها ببعض الكرامات وهي ما زالت جنيناً في بطن أمّها(1) وأكرمها بنزول الملك عليها(2).
وإذا كنّا لا نستطيع إطلاق الحديث القائل بوجود عناصر غيبيّة في شخصية الزهراء (عليها السلام)، بحيث يخرجها عن كونها بشراً أو تتحوَّل حياتها كلّها إلى معاجز خارقة للقوانين الطبيعيّة والسنن التي أودعها الله في الكون، لكنّ هذا لا يعني أبداً نفي ذلك كلّه، فإنّ الزهراء الإنسانة كانت تحيط بها ألطاف الله، ونستطيع أن نقول إنّ هناك عالَماً من الغيب في شخصيّتها، وإنّها نور من الأنوار، وفي حياتها الكثير من الكرامات التي أعطاها الله إيّاها، فقد روي(3) أنّه كان يدخل عليها رسول الله فيجد عندها رزقاً كما كان يدخل زكريا على مريم فيجد عندها رزقاً ويقول: يا مريم أنّى لكِ هذا؟ فتقول {هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران : 37]. وهكذا كانت تجيب فاطمة (عليها السلام) أباها عندما يسألها عن الرزق الذي يجده عندها، كانت لها الكرامة من ربّها لأنّ الله أعدَّها لتكون سيّدة نساء العالمين، ولا بدّ لسيّدة نساء العالمين أن تحمل كلّ الفضائل وكلّ عناصر الخير والحقّ والعبادة والطهارة، وكان لها كرامات أخرى تكشف عن عظيم منزلتها عند الله وقربها منه، لأنّ الله لا يعطي الكرامات إلاّ للمخلصين من عباده والمصطفين من خلقه.
هل الزهراء (عليها السلام) امرأة غير عادية؟
ورغم ما تقدّم من براهين على عصمة الزهراء وقدسيّتها وكراماتها وفضائلها.. فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها امرأة من جنس البشر تملك من الأحاسيس والعواطف والغرائز ما تملكه سائر النساء، وإنّما عظمتها أنّها حرّكت أحاسيسها في رضا الله، ولم تسمح لغرائزها أن تخرج عن حدود الله سبحانه، بحيث إنّ قلبها وعقلها وجسدها لم ينحرفوا عن خطّ الاستقامة طرفة عين أبداً.
وعندما تحدّثنا في "تأمّلات إسلامية حول المرأة"(1) عن أنّ الزهراء (عليها السلام) ـــ كما مريم (عليها السلام) وآسية بنت مزاحم.. ـــ امرأة عادية، فلم يكن في ذلك الكلام إشعار بنفي كرامات الزهراء وعصمتها، كيف وقد أشرنا في تلك الصفحة نفسها إلى أنّ الله سبحانه منح بعض تلك النسوة العظيمات من ألطافه ما يسدّدهن ويثبّتهن روحياً وعملياً، وإنّما كان ذلك الكلام يرمي ـــ كما يشهد به صدره وذيله ـــ أنّها (عليها السلام) لم تكن إلاّ بشراً وتحمل خصائص سائر النساء، كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بشراً ويحمل خصائص الرجال {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف : 110]، وإلاّ لو لم يكن رسول الله بشراً وكذلك الأنبياء والأئمّة والزهراء (عليهم السلام) جميعاً لما كان لهم فضل على سائر الناس، ولما كان هناك معنى للاقتداء بهم {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام : 9]، فعظمة هؤلاء وقيمتهم أنّهم بشر وليسوا ملائكة، ولكنّهم بإرادتهم وقداستهم أرفع شأناً عند الله من الملائكة.. ولهذا علينا عندما نقدّم الزهراء (عليها السلام) أو نقدّم آل البيت (عليهم السلام)، أنْ لا نقدّمهم بطريقة توحي بأنّهم ملائكة أو أنّهم غيب من الغيب، لأنّنا وإنْ كنّا نعتقد أنّ الغيب يمثّل الأساس في عقيدتنا، ولكنّ إرادة الله قضت أن يكون المثل الأعلى للنّاس والهادي لهم من الضلالة من جنسهم {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء : 93]، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة : 2].
ولئن بقي البعض يصرّ ـــ ورغم كلّ كلماتنا وصراحتنا في تقديس السيّدة الزهراء (عليها السلام) وتعظيمها وبيان عصمتها.. ورغم كثرة محاضراتنا وتنوّعها منذ أكثر من خمسين سنة في شأن آل البيت (عليهم السلام) ـــ على تقويلنا ما لم نقله وتحميل كلامنا ما لا يحمله، في شأن سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) وعصمتها، أو في شأن ولاية سيّدنا أمير المؤمنين (عليه السلام) التي أكّدها ونصّ عليها النبيّ الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مواضع عديدة أبرزها في غدير خمّ، فإنّنا ندعو الله لهم بالهداية إنْ كان لا يزال عندهم قابلية ذلك، وإلاّ فحسابهم على الله ولنا معهم موقف يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربّ العالمين الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في كتاب، وسيكون الحساب بمحضر جدِّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وجدّنا أمير المؤمنين (عليه السلام) وجدّتنا الصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، ونرى لمن يكون الفلج في ذلك اليوم.
العابدة
معنى العبادة عند الزهراء (عليها السلام):
إذا درسنا عبادة الزهراء (عليها السلام)، فإنّنا نجد فيها القوّة والجهد والانفتاح على الله سبحانه، فقد كانت تعي معنى القرب من الله وقيمة التضرُّع بين يديه والبكاء من خشيته، وهذا ما جعلها تعيش الروحانية كأصفى ما تكون، لأنّ العبادة عند الزهراء (عليها السلام) لم تكن مجرَّد حالة تقليدية وطقوس باردة يمارس من خلالها الإنسان حركات جوفاء فارغة، وإنّما هي حالة يعيش فيها الإنسان عمق الإخلاص والمحبّة لله سبحانه، وهذا يعني أنّه كلَّما عَبَدَ الإنسان ربّه أكثر كلّما اقترب منه أكثر، وكلّما أحسَّ بعظمة الله أكثر استحضر نعمته أكثر وعاش معه وانفتح على الحياة وعلى عباده أكثر فأكثر.
وإنّ مشكلة النّاس أنّهم بين مَنْ لا يعبد الله لأنّه لا يعيش الله في قلبه وعقله إشراقةً تمكّنه من الانفتاح عليه بالعبادة وعلى المجتمع بالمسؤولية، وبين مَنْ يعبد الله عبادة مغلقة لا وعي فيها ولا روح لها، وإنّما هي عادة اعتادها لا يشعر معها بالروحانية ولا الحبّ لله، وبالتالي فإنّه لم يتعلّم أن يحبّ الناس جيّداً، لأنّ مَنْ لا يحبّ الله لن يفلح في أنْ يحبّ النّاس، وأمّا من أحبّ الله فلا يمكن أن يبغض عيال الله، والخلق كلّهم عيال الله.
عبادتها كمّاً وكيفاً:
وفي إطلالة على ما حدّثتنا به كتب السيرة عن عبادة السيّدة فاطمة (عليها السلام)، فإنّنا نجد أنّها كانت عبادة منقطعة النظير، وإليك بعض النصوص في هذا المجال:
1 ـــ يروى عن الحسن البصري أنّه قال: "ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتّى تتورَّم قدماها"(1).
2 ـــ وتمتدّ القضية إلى ما هو أبعد من ذلك، فهذا ابنها الإمام الحسن (عليه السلام) يحدّثنا قائلاً: "رأيت أُمّي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جُمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسمّيهم وتُكثِر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار"(2).
فاطمة المثقلة بهموم البيت والحمل والأولاد، والمثقلة بمسؤولياتها الإسلامية في الواقع الاجتماعي، ولكنّها مع ذلك كلّه ومع ضعف جسدها، نراها تعبد الله حتّى تتورَّم قدماها وتجد لنفسها الوقت لتقوم اللّيل وتحييه بذكر الله وعبادته، وهي تختار اللّيل لمناجاتها، لأنّه من أعظم الأوقات التي تنطلق فيها روح الإنسان من ذاته وتحلِّق في أجواء المعبود والمعشوق.
ولكن لمن كانت تدعو في اللّيل الذي كانت تنتظره لتجلس بين يديّ الله وتناجيه وتذوب فيه وتخشع له؟
هل كانت تدعو لنفسها وتطلب لذاتها شيئاً كما يفعل الكثيرون منّا عندما يقومون باللّيل أو النهار ليعبدوا الله؟
كلا، فالمسألة كانت عندها تسير في اتّجاهٍ آخر، فهي تستغلّ أجواء اللّيل وهدوءه وروحيّته من خلال ما يفتحه أمام العبد من آفاق تسمو بروحه، تستغلّ ذلك لتدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها بشيء. تفكّر بالمؤمنين والمؤمنات، هذا إنسان مريض وتلك إنسانة مريضة، وهذا إنسان ابتلاه الله بالفقر، وذلك ابتلاه ببعض المصائب أو المعاصي... تستحضر كلّ ذلك وتدعو الله لهؤلاء ليقضي حوائجهم ويغفر لهم ذنوبهم ويشفي مرضاهم ويفكّ أسراهم ويرحم موتاهم ويسدّ جوعتهم.. وكان ذلك يشغلها عن الدعاء لنفسها، وهي المحتاجة لذلك من خلال ما تعانيه من أعباء وأثقال ومشاكل. ولذلك يقول لها ابنها الحسن (عليه السلام) وهو يتحسَّس آلامها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك؟ ويكون الجواب الرائع: "يا بنيّ الجارّ ثمّ الدار".
هذه قيمة أهل البيت (عليهم السلام)، أنّهم يفكِّرون بالآخرين وآلامهم وحاجاتهم ومشاكلهم قبل أنْ يفكِّروا بأنفسهم، يفكِّرون بخلق الله وعياله لأنّهم يعلمون أنّ أحبّ خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله، وهذا جدّهم رسول الله رغم ما عاناه من قريش وجورها حتّى قال: "ما أُوذي نبيّ مثل ما أُوذيت"(1)، كان يقول: "اللّهم اغفر لقومي إنّهم لا يعلمون"(2)، وكان يستمهل الله في عقابهم، ويدرس ظروفهم الفكرية والنفسيّة والاجتماعية ورواسبهم التاريخيّة، لكي يجد لهم العذر لكلّ هذه العصبية التي واجهوه بها، حتّى استطاع في نهاية المطاف أن يكسر الجليد الذي كان في داخل شخصيّاتهم ويدخلهم في دين الله أفواجاً.
وعندما كان يواجه المشركين وهم يتمرَّدون ويتمنَّعون عن الاستجابة له، كان يعيش الحسرة إشفاقاً عليهم ورحمة بهم، ولذا خاطبه الله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8]، وقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية : 21 ـــ 22]، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29]، أي أنّك لستَ المسؤول عن عدم اهتدائهم، وإنّما أنتَ مسؤول أن تعلِّمهم الكتاب الحكمة وتزكّيهم وتبلّغهم رسالات الله، بأنْ تبذل كلّ جهدك في هذا الإطار وتقيم الحجّة عليهم، وأمّا سلوك طريق الهداية، فهو بيدهم واختيارهم، فإن قدّر الله سبحانه لهم سلوكه كانوا من المرحومين ببركة جهودك، وإلاّ فلا لوم عليك ولا عتاب، بل اللّوم عليهم والعقاب لهم.
تسبيحها ودعاؤها:
لقد سلف عند الحديث عن آلامها ومعاناتها أنّها كانت تبتعد عن كلّ المتاعب التي تواجهها والمعاناة التي كانت محيطة بها، بالانفتاح على تكبير الله عزّ وجلّ وتفتح قلبها وعقلها على الله سبحانه فتناجيه بما تحبّ وترغب، وتُسارّه بما يجيش في صدرها ويعتمل في قلبها من هموم وآلام ومصائب لم تجد إلى بثّها سبيلاً، وتدعوه وتتوسَّل إليه، لأنّ في الدعاء سعادة الدّنيا والآخرة.
الصادقة
تحدّثت عائشة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن كثير من خصال الزهراء (عليها السلام) ومناقبها وعلاقتها برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكيف كان يحترمها ويرحّب بها ويجلسها عن يمينه(1)، وأنّها كانت الأحبّ إلى قلبه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)(2)، وممّا نقل عن عائشة في هذا المجال حديثها عن صدق الزهراء (عليها السلام)، بل أصدقيّتها، قالت: "ما رأيتُ أصدق منها إلاّ أباها"(3)، وقيمة هذا الحديث أنّه صادر من عائشة التي يبدو أنّها تحدّثت به بعد عملية استقراء لكلّ من تعرفه في الواقع الإسلامي من الرجال والنساء، فلم ترَ أصدق من الزهراء (عليها السلام) إلاّ أباها. والملفت أنّها ـــ أي عائشة ـــ لم تقل في وصفها (عليها السلام) إنّها الصادقة، بل عبَّرت بالأصدق، وهكذا تعبير يطلق على الإنسان عندما يكون حساساً جداً في مسألة الصدق، بحيث يدقِّق في الكلمة حذراً من أن يكون فيها بعض الإيحاءات الكاذبة وإنْ لم تكن كذباً. والزهراء بنظر عائشة كانت كذلك، كانت الأصدق وتمثّل الصدق في الكلمة والموقف، كما كان أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يجسِّد الصدق حتّى عرف في قومه ـــ قبل البعثة ـــ "بالصادق الأمين"، وبعد البعثة شهد له الله بهذه الصفة الرفيعة، فقال عزّ من قائل عنه: {جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر : 33]، وهذه الصفة المميزة التي اتّصف بها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هي التي هيَّأت الأجواء لنبوّته في نفوس الناس وركّزتها على قاعدة الصدق، والصدق يجتذب الأمانة، ومَن يكون صادقاً لا يمكن أن يكون خائناً، لأنّ الخيانة تمثّل نوعاً من الغشّ والكذب مع الناس والحياة.
والزهراء (عليها السلام) اكتسبت هذه الصفة من أبيها، وارتفعت بها حتّى كانت الأصدق بعد أبيها، كان أبوها الأصدق في الناس كلّهم، وكانت الأصدق في الناس كلّهم ما عداه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنّ صدقها مستمدّ من صدقه، فهو الذي زرع الصدق في عقلها ليكون فكرها فكر الصدق، وزرع الصدق في قلبها لتكون عاطفتها عاطفة الصدق، وزرع الصدق في حياتها لتكون حياتها صدقاً كلّها، صدقاً مع نفسها وزوجها وأولادها وكلّ مجتمعها.
لقد كانت الزهراء (عليها السلام) ولا تزال قدوة في الصدق، وتريد لنا أن نحوِّل الحياة إلى صدق، وأن يكون كلّ واحدٍ منّا هو الأَصدق مع نفسه والأصدق في قومه وعشيرته، لا أن نكون كما هو حال الكثيرين الذين يعيشون حياتهم كذباً مستمراً ومتواصلاً، كذباً في الدّين مع كلّ الدّجالين والمنحرفين، وكذباً في السياسة مع كلّ الخائنين والمستكبرين، وكذباً في الواقع الاجتماعي الذي يتحرّك فيه الكذب من أجل منفعة هنا ومنفعةٍ هناك.
العالِمة
في مدرسة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):
ترعرعت الصدّيقة الطاهرة في مهبط الوحي وبيت النبوّة، ما هيَّأ لها أن ترضع تعاليم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه مع الحليب، لتكون أوّل تلميذة من النساء في القسم الداخلي من مدرسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما كان عليّ أوّل تلميذ من الرجال في هذه المدرسة.. كانت تجلس مع عليّ (عليه السلام) عند رسول الله والوحي ينزل عليه وتستمع بلهفة وإمعان إلى دروس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يشرح معاني الوحي لها ولعليّ (عليهما السلام) ويعلّمهما أحكام الله وتشريعاته، ومن هنا نستطيع القول إنّ كلمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ"(1)، تشير، فيما تشير إليه، إلى المستوى العقلي الذي تملكه فاطمة (عليها السلام) ولا يملكه إلاّ عليّ (عليه السلام)، ما جعلها الكفؤ الوحيد له وجعله الكفؤ الوحيد لها.
ومن الشواهد التي تدلِّل على اهتمام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بتعليم فاطمة، ما جاء في الحديث الذي رواه الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لمّا جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعض أمرها، أعطاها كربة ـــ أصل السعفة وكان يُكتب عليها ـــ وقال تعلّمي ما فيها.. فإذا فيها: مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت"(2).
لقد أراد لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن تخفِّف آلامها من خلال الانشغال بالقِيَم الإسلامية وتبليغها للناس، ومعنى ذلك في ما نستوحيه، أنّ على الإنسان أن يكون واعياً لرسالته أكثر من وعيه لآلامه، لينتصر برسالته على آلامه، فإنّ من يعيش الاهتمام بالقضايا الكبرى ينسى آلامه ويستصغرها.
أهمية العلم عندها:
نقل بعض المحدّثين والعلماء رواية عن الزهراء (عليها السلام) تكشف عن أهمية العلم عندها، والرواية هي أنّه جاء رجل إلى فاطمة (عليها السلام) فقال: يا فاطمة بنت رسول الله، عندك شيء تطرفينيه (تعطيني إيّاه)؟ فقالت: يا جارية ـــ وكان عندها خادمة اسمها فضّة خدمتها في أواخر عمرها الشريف ـــ هاتي تلك الحريرة "أو الجريدة التي كان عليها ما تسمعه من أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)"، فطلبتها فلم تجدها، فقالت (عليها السلام): ويلك اطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً، هذا تراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها ـــ وضعتها في النفايات ـــ فإذا فيها: قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): ليس من المؤمنين مَنْ لم يأمن جاره بوائقه ـــ أذاه ـــ ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت، إنّ الله تعالى خير ويحبّ الخيِّر الحليم المتعفِّف، ويبغض الفاحش الظنّين البذّاء السئّال الملحف ـــ الذي يلحف في سؤاله ـــ إنّ الحياء من الإيمان والإيمان في الجنّة، إنّ الفحش من البذاء والبذاء في النار"(1).
إنّنا ندرك من هذه الرواية ونتلمَّس منها بوضوح كم كانت الزهراء (عليها السلام) تعظِّم العِلْم وتحترمه، ندرك ذلك جيداً إذا عرفنا كم كانت محبّتها لولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، ولا بدّ أن يكون واضحاً أنّ الأهمية لا تكمن في حروف الكلمة، بل في روحيّتها التي تحوّلها إلى فكر يغني الإنسان وحركة تصحِّح مساره وتجربته.
ونستفيد من هذه الرواية وغيرها أنّ الصدّيقة كانت تستقبل الرجال وتجيب على أسئلتهم واستفساراتهم الشرعية أو تعظهم ببعض المواعظ الدينيّة.
حلقة درسها:
ولم تكتفِ الزهراء (عليها السلام) بكتابة العلم وجمعه في مصحف وأوراق، بل كانت تعمل على بثّه في المجتمع الإسلامي، كما أنّها لم تكن تنتظر أن يقصدها طلاّب العلم لتجيب على أسئلتهم، بل كانت تبادر إلى نشره في المجتمع، إذ ينقل كتّاب سيرتها أنّها كانت تعطي دروساً لنساء المهاجرين والأنصار اللاتي كنّ يجتمعن عندها في حلقة واحدة بما يشبه حلقات الدرس الحوزوي، فقد روى الكليني في الكافي بإسناد صحيح إلى ابن أذينة عن زرارة قال سألت أبا جعفر عن قضاء الحائض الصلاة، ثمّ تقضي الصوم؟ قال ليس عليها أن تقضي الصلاة، عليها أن تقضي صوم شهر رمضان، ثمّ أقبل عليّ وقال أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يأمر بذلك فاطمة، وكانت تأمر بذلك المؤمنات(1) فقد كانت (عليها السلام) تعلِّم المؤمنات أحكام دينهن، وما خطبتها في المسجد التي بيّنت فيها أسرار التشريع والقوانين الإلهية وغير ذلك من المطالب، إلاّ وثيقة حيّة وخير شاهد على رسالة الزهراء الثقافية ومسؤوليتها الفكرية والتربوية.
أوّل كاتبة في الإسلام:
وقد وصل اهتمامها بالعلم وبحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبأحكام الإسلام وتعاليمه إلى درجة أنّها كانت تسجّل كلّ ما تسمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مباشرة، أو ما يحدّثها به عليّ (عليه السلام) أو ابنها الإمام الحسن (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما يفهم ذلك من حديث الحريرة المتقدّم ومن قضية "مصحفها" على بعض التفسيرات الآتية له، ويفهم أيضاً من بعض الروايات التي جاء فيها التعبير بــ "كتاب فاطمة"، كما استفاده السيّد الأمين(1)، ولهذا نستطيع القول إنّ الزهراء (عليها السلام) هي أوّل كاتبة في الإسلام من الرجال والنساء وأوّل من كتب حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بسمعٍ ومرأى منه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومنه نعرف أنّ ما فعله الخليفة عمر بن الخطّاب من منعه(2) المسلمين من كتابة حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى لا تختلط السُنّة بالكتاب، كان أمراً خاطئاً وحجّته غير مقنعة، فهذه فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد كتبت أحاديث الرسول في حياته ولم يردعها عن ذلك.
مصحف فاطمة ليس قرآناً:
لقد تركت لنا الزهراء (عليها السلام) كتاباً عرف "بمصحف فاطمة"، وقد ثار حوله لغطٌ واسع، ولهذا لا بدّ أن نبيِّن حقيقة هذا المصحف ورأينا في ما يشتمل عليه.
وبدايةً، يجب أن نؤكّد بأنّ هذا المصحف بحسب ما يعتقده كلّ الشيعة دون استثناء، ليس قرآناً آخر غير القرآن الموجود بين الدفتين والمتداول بين المسلمين، والذي لم يحصل فيه زيادة أو نقصان.
وقد حاول بعض علماء المسلمين ممّن لا يتحمّلون مسؤولية الكلمة، اتّهام الشيعة بأنّ لهم قرآناً غير القرآن المتداول بين أيدي المسلمين، لأنّ المصحف يعني القرآن، وعندما يتحدّث عنه الإمام الصادق (عليه السلام) يقول إنّه أكبر من مصحفكم هذا بثلاث مرّات(3).
ولكنّنا نقول لهؤلاء أنْ يتّقوا الله في كلماتهم لأنّه:
أوّلاً: إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)(1)، والتي تتحدّث عن مصحف فاطمة، تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ والريب بأنّه ليس قرآناً مغايراً للقرآن المتداول بين أيدي المسلمين. ولهذا عبَّر عنه في بعض تلك الروايات بــ "كتاب فاطمة" بدل مصحفها، كما جاء في كتاب الزكاة من الكافي(2).
ثانياً: نقول لهؤلاء، وقد قلنا ذلك لكثيرٍ من علماء المسلمين من أهل السُنّة(3): لو أنّكم جلتم على كلّ مواقع الشيعة في العالم ودخلتم كلّ بيوتهم ومساكنهم ومكتباتهم ومساجدهم وحسينيّاتهم.. فإنّكم لن تجدوا إلاّ هذا القرآن الذي بين أيديكم لا يختلف عنه بكلمة ولا حتّى بحرفٍ واحد.
ثالثاً: إنّ كلمة مصحف التي هي منشأ الوهم واللّغط، لا ترادف بحسب مدلولها كلمة قرآن، لأنّ كلمة مصحف مأخوذة من الصحف والصفحات، فكلّ كتاب له أوراق وصفحات يسمّى مصحفاً، وحتّى القرآن الكريم إنّما سمّي مصحفاً لأنّه يشتمل على صحف وصفحات. ولئن صارت الكلمة في العرف الإسلامي مرادفة لكلمة القرآن، فإنّ هذا العرف حادث والاصطلاح متأخِّر جداً عن زمن صدور الروايات التي تقول إنّ لفاطمة مصحفاً.
حقيقة المصحف:
بعدما عرّفت أنّ المصحف المذكور ليس قرآناً، يقع تساؤل جديد عن مضمونه ومحتواه، فهل هو مشتمل على بعض المغيّبات التي كان يحدّثها بها الملك ويكتبها عليّ (عليه السلام)؟ أو هو مشتمل على وصيّتها مع بعض الأحكام الشرعية وربّما المواعظ والتعاليم الإسلامية؟
هناك اختلاف في الروايات المتعلّقة بذلك:
1 ـــ فهناك رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنّه لما نظر في مصحف فاطمة (عليها السلام) قال: "وما مصحف فاطمة؟ قال: إنّ الله تعالى لمّا قبض نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) دخل على فاطمة (عليها السلام) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، فأرسل إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدِّثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين، فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي، فأعلمته ذلك، وجعل أمير المؤمنين يكتب كلّ ما سمع، حتّى أثبت من ذلك مصحفاً. قال: ثمّ قال: أمّا إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكنّ فيه علم ما يكون"(1).
ويمكن المناقشة في المتن بالقول: إنّ المفروض في الملك أنّه جاء يحدّثها ويسلّي غمّها ليدخل عليها السرور، فكيف تشكو ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)؟! ما يدلّ على أنّها كانت متضايقة من ذلك، كما أنّ الظاهر منه أنّ الإمام (عليه السلام) كان لا يعلم به، وأنّ المسألة كانت سماع صوت الملك لا رؤيته.
2 ـــ وفي رواية أبي عبيدة: "... وكان جبريل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيِّب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعد في ذرّيتها، وكان عليّ يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة"(2).
ولا مانع أن ينزل عليها الملك جبرائيل، ولكنّ الحديث ظاهر في اختصاص العلم الذي يعلّمها إيّاه ممّا يكون في ذرّيتها فقط.. بينما الرواية الأخرى تتحدّث عن الأعمّ من ذلك، حتّى أنّها تتحدّث عن ظهور الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وهو ممّا قرأه الإمام عليّ (عليه السلام) في مصحف فاطمة.
3 ـــ وهناك رواية الحسين بن أبي العلاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وجاء فيها: "... مصحف فاطمة (عليها السلام) ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتّى أنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش"(1).
والظاهر من هذه الرواية أنّ المصحف يشتمل على الحلال والحرام.
4 ـــ وقد ورد في حديث حبيب الخثعمي أنّه قال: "كتب أبو جعفر المنصور إلى محمّد بن خالد وكان عامله على المدينة، أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكاة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأمره أن يسأل فيمن يسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: فسأل أهل المدينة فقالوا: أدركنا من كان قبلنا على هذا، فبعث إلى عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد (عليهما السلام)، فسأل عبد الله بن الحسن فقال كما قال المستفتون من أهل المدينة، قال: فقال: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جعل في كلّ أربعين أوقية، فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة، وقد كانت وزن ستّة، وكانت الدراهم خمسة دوانيق. قال حبيب: فحسبناها فوجدناها كما قال، فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: قرأت في كتاب أُمّك فاطمة (عليها السلام)، قال ثمّ انصرف. فبعث إليه محمد بن خالد ابعث إليّ بكتاب فاطمة (عليها السلام)، فأرسل إليه أبو عبد الله (عليه السلام): إنّي إنّما أخبرتك أنّي قرأته ولم أخبرك أنّه عندي. قال حبيب: فجعل محمد بن خالد يقول لي: ما رأيت مثل هذا قطّ"(1).
وظاهر هذا الحديث أيضاً أنّ كتاب فاطمة، وهو مصحف فاطمة(2)، يشتمل على الحلال والحرام.
5 ـــ وهناك رواية أخرى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال ـــ في حديث ـــ: وليخرجوا مصحف فاطمة فإنّ فيه وصيّة فاطمة (عليها السلام)(3).
6 ـــ وهكذا نجد أنّ بعض الروايات تقول إنّه بخطّ عليّ (عليه السلام) عمّا يحدّثه الملك لزهراء (عليها السلام)(4).
7 ـــ وهناك رواية تدلّ على أنّ المصحف من إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابة عليّ (عليه السلام)(5).
ولكنّ الروايات الأخرى لا تدلّ على ذلك، وهي المشتملة على الحلال والحرام ووصيّة فاطمة، فلا بدّ من الترجيح بينها. أمّا رواية حماد بن عثمان فهي ضعيفة بعمر بن عبد العزيز أبي حفص المعروف بزحل. يقول الفضل بن شاذان: زحل يروي المناكير وليس بغالٍ، وعن النجاشي: مخلط، وعن الخلاصة: عربي مصري مخلط(6).
وأمّا رواية أبي عبيدة ـــ والظاهر أنّه المدائني(1) ـــ فهي ضعيفة، لأنّه لم يوثق، ولكنّ رواية الحسين بن أبي العلاء صحيحة، وقد دلَّت على اشتماله على الحلال والحرام، وأمّا رواية حبيب الخثعمي ورواية سليمان بن خالد فهما ضعيفتان على الظاهر، لكنّهما تصلحان لتأييد خبر الحسين بن أبي العلاء، لاسيّما أنّ مبنانا في حجّية الخبر هو حجّية الخبر الموثوق به نوعاً، وقد يكفي في الوثوق عدم وجود ما يدعو إلى الكذب فيه.
ولذا فالأرجح أنّه كتاب يشتمل على الحلال والحرام، وإنْ كان بالإمكان أن يقال بأنّه لا تعارض بين الروايات، فنلتزم أنّ المصحف يشتمل على الأحكام وعلى الأخبار التي كان يحدّثها بها الملك وعلى وصيّتها، إذ لا مانع من نزول ملك عليها، ويظهر من العلاّمة المجلسي(2) إقراره باشتمال المصحف على الأحكام. وعلى ضوء هذا، فإنّ نسبة الكتاب إلى فاطمة (عليها السلام) يدلّ على أنّها صاحبة الكتاب، كما أنّ نسبة الكتاب إلى عليّ (عليه السلام) ـــ في ما ورد من الأئمّة (عليهم السلام)(3) عن كتاب عليّ (عليه السلام) ـــ يتبادر فيه أنّ صاحبه عليّ (عليه السلام). وممّا تقدّم يتّضح أنّه لا مانع من القول إنّها أوّل مؤلّفة في الإسلام، كما أنّ عليّاً أوّل مؤلّف في الإسلام.
وعلى أيّة حال، فإنّ الكتاب ليس موجوداً بأيدينا، وإنّما هو موجود عند الإمام الحجّة (عجَّل الله فرجه الشريف)، ولذلك فإنّ الجدل في ما يحويه ويشتمل عليه ليس له أيّة ثمرة عمليّة. نعم، نحن نأخذ منه بما حدّثنا به الأئمّة (عليهم السلام) عنه كما نأخذ من كتاب عليّ (عليه السلام) ـــ مع أنّه ليس بأيدينا ـــ بما حدّثنا به الأئمّة (عليهم السلام) من ذريّته، وهكذا الحال في كتاب (الجفر) و(الجامعة) وغيرهما ممّا أثّر وعرف أنّه من مصادر أهل البيت (عليهم السلام)
الغاضبة للحقّ:
وبعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ابتدأت جهاداً من نوعٍ آخر، حيث كان أكبر همّها وكلّ قضيّتها إثبات حقّ عليّ في موقع الخلافة كإمام منصوب من الله، وكلّ تحرّكاتها تمحورت حول هذا الهدف السامي، وحتّى عندما تحدّثت عن "فدك" لم تتحدّث عنها لكونها تمثّل حاجة مالية لها على طريقة حبّ الناس لتحصيل الأموال، بل "فدك" لم تكن عندها وعند زوجها عليّ تساوي شيئاً يذكر "وما أصنع بفدك وغير فدك والنَّفس مظانّها في غد جدث..."(1)، فأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، لا يعني المال عندهم شيئاً، وفاطمة (عليها السلام) هي من قلب هذا البيت والرابط بينهم جميعاً، فهي أجلّ من أنْ تفكِّر لمصلحة ذاتية، بل إنّها أرادت بإصرارها على التمسُّك بفدك أن تثبت أنّ غصب فدك يعني غصب الحقّ، وأنّ غصب فدك يلتقي مع غصب الخلافة.
المعارضة للظلم:
وهكذا انطلقت في حماية سياسة الحقّ، انطلقت بمواقفها وكلماتها وخطبها وكلّ نشاطاتها، جاءتها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها في مرضها الذي توفيت فيه، وأخذن يسألنها عن صحّتها، عن مرضها وآلامها وضعفها، فبماذا أجابت؟ قالت: "أصبحت عائفة لدنياكن، قالية ـــ كارهة ـــ لرجالكنّ"(2)، لماذا؟ لأنّهم لم ينطلقوا في نصرة الحقّ، لم يقفوا مع عليّ (عليه السلام) ممثّل الحقّ، احتجَّت عليهن وعلى رجالهن بذلك، وسجّلت هذا الموقف الغاضب دفاعاً عن الحقّ، لا لأنّ عليّاً (عليه السلام) زوجها أو ابن عمّها، بل لأنّه إمامها ووليّ أمرها وإمام كلّ المسلمين ووليّ أمرهم، ولأنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ معه، ولأنّ عليّاً ذاب في الله بجهاده دون خوف، وتحرّك في سبيله من دون ملل ولا كلل، ولأنّ عليّاً هو الذي علّمه رسول الله وفتح له ألف باب من العِلْم يفتح له من كلّ باب ألف باب(3). ولأنّ عليّاً لو سُلِّم زمام الأمور لعمل بالحقّ وأرسى قواعد العدل وحملهم على المحجّة البيضاء. عليّ (عليه السلام) في وعي فاطمة (عليها السلام) يمثّل كلّ هذه الصفات، يمثّل الإنسان الكامل الذي احتاج كلّ الناس إلى علمه ولم يحتجّ إلى سؤال أحد، كان دائماً في المقدّمة والطليعة، وكما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سئل: لم قدّمت عليّاً؟ فأجاب: "استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه دليل أنّه إمام الكلّ" (1).
خطابها للمهاجرين والأنصار:
وإليك خطابها لنساء المهاجرين والأنصار كاملاً كما رواه المحدّثون والمؤرّخون: فقد جاء في الاحتجاج(2) للطبرسي، ومعاني الأخبار(3) للشيخ الصدوق، والأمالي(4) للشيخ الطوسي، وشرح النهج(5) لابن أبي الحديد، نقلاً عن كتاب السقيفة، واللّفظ للأوّل: "قال سويد بن غفلة: لما مرضت فاطمة سلام الله عليها المرضة التي توفّيت فيها، دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها: كيف أصبحتِ من علّتك يابنة رسول الله؟ فحمدت الله وصلَّت على أبيها ثمّ قالت:
"أصبحت والله عائفة ـــ كارهة ـــ لدنياكنَّ قالية ـــ مبغضة ـــ لرجالكنّ، لفظتهم ـــ طرح الشيء من الفم ـــ بعد أن عجمتم ـــ عضّ الشيء ـــ وسئمتهم بعد أن سبرتهم ـــ امتحنتهم ـــ فقبحاً لفلول ـــ فلّ السيف: انثلم حدّه ـــ الحدّ، واللّعب بعد الجدّ، وقرع الصفا ـــ الرّمح ـــ وصدع القناة ـــ الحجر الأملس ـــ وخطل الآراء وزلل الأهواء، وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون! لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها ـــ الربقة: حبل صغير تربط به صغار البُهُم ـــ وحملتهم أوقتها ـــ ثقلها ـــ وشنّت عليهم غاراتها، فجدعاً ـــ جدع الأنف: قطعه ـــ وعقراً وبعداً للقوم الظالمين.
ويحهم، أنّى زحزحوها ـــ نحّوها ـــ عن رواسي ـــ الأصول الثابتة ـــ الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين ـــ الفطن ـــ بأمور الدّنيا والدّين، ألاَ ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن (عليه السلام) ـــ أي أنكروا عليه ـــ؟ نقموا والله منه نكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه، وشدّة وطأته ونكال وقعته وتنمّره ـــ غضبه ـــ في ذات الله، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً ـــ سهلاً ـــ لا يكلّم حشاشه ـــ جرحه ـــ ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم نميراً صافياً روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً ـــ مرتوين ــ ونصح لهم سرّاً وإعلاناً، ولم يكن يتحلّى من الدّنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96]، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيّئات ما كسبوا وما هم بمعجزين، ألاَ هلمّ فاسمع وما عشت أراك الدّهر عجباً!! وإنْ تعجب فعجبت لهم! ليتَ شعري، إلى أي سنادٍ استندوا؟! وإلى أي عمادٍ اعتمدوا؟! وبأيّة عروة تمسَّكوا؟! وعلى أيّة ذرّية أقدموا واحتنكوا ـــ استولوا ـــ لبئس المولى ولبئس العشير وبئس للظالمين بدلاً! استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل ـــ ما بين الكتفين ـــ فرغماً لمعاطس ـــ أنوف ـــ قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ألاَ إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ويحهم {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس : 35]؟! أما لعمري لقد لقحت ـــ حبلت ـــ فنظرة ـــ أي انتظروا ـــ ريثما تنتج ـــ تلد ـــ ثمّ احتلبوا ملء القعب ـــ الإناء الخشبي ـــ دماً، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيفٍ صارم، وسطوة معتدٍ غاشم وبهرج شامل واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرتا لكم وأنّى بكم وقد عميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون".
مجيء المهاجرين والأنصار إليها:
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء ـــ نساء المهاجرين والأنصار ـــ قولها (عليها السلام) على رجالهن، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيّدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت: "إليكم عنّي، فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم".
هكذا هي الزهراء (عليها السلام)، امرأة صلبة متنمّرة في ذات الله، تحاور الرجال والنساء وتخاصمهم وتجادلهم، لا لأجل إثبات حقّ شخصي لها، بل لأجل هدف رسالي كبير، وهو ولاية الأمر وخلافة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) التي هي حقّ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو الأليف بها، ولو أُعطيت له ولم يحل بينه وبينها لحملهم على المحجّة البيضاء، ونصح لهم سرّاً وإعلاناً، وسار بهم سيراً سهلاً، وأوردهم نميراً صافياً رويّاً، كما عبَّرت سلام الله عليها.
طوافها على بيوت الأنصار:
ولقد بقيت على الصلابة نفسها في موقفها، حتّى إنّه جاء في بعض الروايات أنّها كانت تخرج مع عليّ (عليه السلام) وتطوف على بيوت المسلمين، سيّما الأنصار، لتحدّثهم عن حقّ عليّ (عليه السلام) وجدارته للخلافة. ففي كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة: "وخرج عليَّ كرَّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنتَ رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليّ كرَّم الله وجهه: "أفكنتُ أدع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في بيته ولم أدفنه وأخرج أُنازِع الناس سلطانه"؟! فقالت فاطمة: "ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم"(1).
لقد عاشت للقضايا الكبرى ولم تعش أبداً للقضايا الصغرى، لأنّ مَنْ يعيش الإسلام والحقّ كلّه فلا بدّ أن يكون بحجم الإسلام والحقّ، ولا بدّ أن يبقى صلباً، لا يحابي ولا يداهن ولا يتراجع ولا يضعف ولا يهن ولا يحزن.
الزهراء رائدة النشاط السياسي للمرأة:
إنّ كلّ المواقف الآنفة للزهراء تمثّل بمصطلح اليوم نشاطاً سياسياً تحرّكت به من خلال الفرص الممكنة والمتاحة أمامها من دون أن تفقد شيئاً من أخلاقية المسلمة وروحيّتها.
وهكذا نستوحي من مواقفها الآنفة أنّها أوّل مَن قاد حركة المعارضة في الإسلام ضدّ المواقف الخاطئة التي ظهرت بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقد عبّرت عن معارضتها أجلى تعبير من خلال خطبتها في المسجد، والتي تمثّل وثيقة حيّة في التشريع الإسلامي والمفردات السياسية.
ولقد خاضت الزهراء (عليها السلام) العمل السياسي كأقوى ما يكون، ووقفت وحدها من دون النساء في وجه السلطة لتتحدَّث وتقيم الحجّة وتذكّر الأُمّة بكلّ كلمات الرسول في حقّ عليّ (عليه السلام)، ولكنّها لم تسمع سوى اعتذارات غير مقنعة، إلاّ أنّها ورغم ذلك، بقيت في خطّ المواجهة ودائرة المعارضة بكلّ عزيمة وطاقة وإصرار.
قمّة الاحتجاج:
حتّى أنّها صعّدت من وتيرة احتجاجها ومعارضتها إلى أعلى المستويات عندما أوصت بأنْ تُدْفَن ليلاً، وأنْ لا يحضر جنازتها الذين آذوها وظلموها، ليتساءل الناس لماذا أوصت فاطمة أن تدفن ليلاً، وهذه حادثة لم يسبق لها مثيل في الواقع الإسلامي، فلربّما كان لهذا التساؤل أثر بعد وفاتها إنْ لم يكن هناك تجاوب معها في حال حياتها، وإلاّ إنْ لم يلقَ آذاناً صاغية فيكون الحجّة الدامغة التي تقطع الأعذار.
تجاوزت آلامها لإثبات الحقّ:
وممّا نلحظه في مواقف الزهراء (عليها السلام) الجهادية السياسية في حركة المعارضة، أنّها قد تجاوزت آلامها الجسدية ومتاعبها الحياتية والمعيشيّة، ووقفت بكلّ شجاعة، وكانت المرأة الصلبة القويّة الواثقة بنفسها المتمسّكة بقناعاتها التي لا تخاف في الله لومة لائم.
الرساليّة
1 ـــ لم تتحدّث عن نفسها:
عاشت السيدة فاطمة (عليها السلام) آفاقاً واسعة ورحبة في العلاقة مع الله والارتباط الروحي به والانفتاح الكامل عليه وعلى عباده والتحسُّس بآلامهم والسعي في سبيل إرشادهم وهدايتهم بما لم يحدّثنا التاريخ عنه بالشكل التام، ولم تتحدّث هي عن شيء من هذه الآفاق والمآثر، لأنّ ما يعيشه الإنسان الرسالي من روحانية وصفاء في علاقته مع الله لا يستطيع البوح به لأحدٍ من الناس، لاسيّما أنّ بعض المعاني تُحَسّ ولا تعرَّف، تدرَك ولا تُحدّد، فإنّنا عندما نشمّ الوردة بكلّ ما تحمله من عطر وهي في شبابها، فإنّنا نتحسَّس معنى العطر في نظرتنا للجمال، ولكنّنا لا نستطيع أن نعبّر عنه كما أحسسناه وتذوّقناه، وهكذا هي أحاسيس الرساليّين بكلّ ما تحمله من صفاء وروحانيّة وانفتاح على الله ومحبّة له، فإنّها تدرك بالوجدان ولكن لا يمكن التعبير عنها بالقلم والبنان، ولهذا فإنّ ما بلغنا عن العظماء من مزايا وفضائل قد لا يمثّل كلّ تطلُّعاتهم وآفاقهم وواقعهم، لأنّهم لا يملكون الكلمات التي تعبّر عن كلّ ما يجيش في نفوسهم، أو لأنّهم لا يريدون البوح بهذه المشاعر لتبقى لله وفي سبيله.
2 ـــ لم تعش لنفسها:
إنّ خلاصة حياة هذه الإنسانة العظيمة أنّها لم تعش لنفسها طرفة عينٍ أبداً، وإنّما عاشت لأجل الرسالة، لأجل أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولأجل زوجها أمير المؤمنين، ولأجل ولديها الإمامين الحسنين (عليهما السلام) اللّذين قال فيهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(1)، ولم تعش لهم قرابة فقط، ولكنّها عاشت لهم رسالة، فقد أفنت حياتها في خدمتهم لأنّها رأت في ذلك خدمة للإسلام، الذي كان أكبر همّها وغاية جهدها ومبلغ علمها.
3 ـــ همّ الرسالة أوّلاً:
رغم ظلامة الزهراء (عليها السلام) الذاتية وما أُسيء به إلى شخصها ما أوجب إيذاءها إيذاءً بالغاً، ورغم معاناتها الكثيرة وآلامها البليغة، فإنّا نلاحظ في كلّ ما نقل عنها من مواقف وكلمات، أن ما كان يشغل فكرها وعقلها وقلبها هو القضية الإسلامية العامّة المتمثّلة بحقّ عليّ في الخلافة، هذا الحقّ الثابت بنص الغدير، وقد رأت أنّ مسؤوليتها الإسلامية تحتّم عليها نصرة الحقّ والوقوف مع عليّ بكلّ قوّة. وهكذا كان، فقد تجاوزت كلّ آلامها ومعاناتها الشخصيّة ووقفت لتخطب في المسلمين، ولتتحدّث إلى نساء المهاجرين والأنصار، ولتتكلّم مع رجالهن، ومحور ذلك كلّه هو حقّ عليّ (عليه السلام) في الخلافة، من دون أن يكون لعلاقتها الشخصية ـــ الزوجيّة والنسبيّة مع عليّ (عليه السلام) ـــ أي دخل في كلّ مواقفها، وحتّى مطالبتها بــ"فدك" جاءت في هذا السياق، فقد كانت "فدك" بوّابة للخلافة ورمزاً لها كما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن بعض أساتذته، فالمطالبة بفدك مطالبة بالحقّ الشرعي ومواجهة لخطر الانحراف الذي بدأ بوفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وأمّا قصّة ذهابها إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) برفقة الإمام عليّ (عليه السلام) ـــ والتي تقدّمت الإشارة إليها ـــ للمطالبة بخادم يريحها من تعب أشغال البيت، فلم تكن هي المبادرة لذلك رغم أنّ هذا المطلب يعتبر مشروعاً وعادياً، وإنّما جاء الطلب من عليّ (عليه السلام) رأفة بها وشفقة عليها، وهذا يوحي أنّ مسألة الدنيا وحاجاتها الطبيعيّة لم تكن هدفاً أو أمراً ذا بال بالنسبة لها.
فرح الرسالة وحزنها:
وهكذا كانت شخصيّتها تجسّد الرسالة، فشجاعتها لم تكن انفعالية قبل شجاعة رساليّة، وحزنها ـــ كما مرّ ـــ كان حزن القضية والرسالة، وبكاؤها كان بكاءً إسلامياً، فعندما كانت تبكي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو تحزن عليه، لم تكن تفعل ذلك حزناً على فقد محمّد الأب بقدر ما كانت تبكي محمّداً الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، هذا رغم أنّ أبوّته لها كانت من نوع نادر وعلاقتها به كانت علاقة حميمة ووثيقة.
4 ـــ همّ الناس من همّ الرسالة:
وبعد اهتمامها الرسالي يأتي اهتمامها بالناس من حولها، بل إنّ اهتمامها بالنّاس كان جزءاً من رسالتها، وهنا تكمن قيمة الزهراء (عليها السلام)، لأنّ قيمتها ومنزلتها الرفيعة ليست في نسبها وإنْ كان شريفاً، ولا في عشيرتها أو غير ذلك ممّا يتفاضل به الناس ويتباهون به، بل قيمتها في القِيَم الإسلامية التي تجسّدت فيها وحملتها ونادت بها، ومن أجلّ تلك القِيَم وأرفعها أن يعيش الإنسان للآخرين قبل أن يعيش لنفسه، أن يحمل هموم الآخر ويحبّ له ما يحبّه لنفسه ويكره له ما يكره لها، وهذا ما جسّدته سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) خير تجسيد، بل إنّها كانت في المستوى الأعلى من ذلك، حيث إنّها لم تكن تقاسم الآخرين ما عندها من نِعَم أنعم بها الله عليها، بل كانت تؤثر الآخرين على نفسها رغم ما بها من خصاصة وحاجّة ماسّة.
كانت ورغم أنّها الأحوج للدّعاء بأن يخفِّف الله عنها آلامها ومعاناتها، تستغلّ فرصة اللّيل ـــ كما أسلفنا سابقاً ـــ لتقوم لعبادة ربّها والابتهال إليه والصلاة له في جوٍّ عابقٍ بالروحانية والطلب منه أن يقضي حوائج المؤمنين ويغفر ذنوبهم ويرفع درجتهم ويحقِّق أحلامهم ويشفي مرضاهم، وتسمّيهم بأسمائهم فرداً فرداً، ويسمعها ابنها الإمام الحسن (عليها السلام) فيسألها: "أُمّاه، لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فتجيبه: يا بنيّ الجار ثمّ الدار". أي علينا أن نفكِّر بالآخرين قبل أن نفكِّر بأنفسنا، ونتحسَّس آلامهم قبل أن نتحسَّس آلامنا، فنعمل على أنْ نخفِّف آلامهم ونحقِّق أحلامهم وبعد ذلك ندعو أن يعطينا الله مثل ما أعطاهم، هذا ما تريده لنا الزهراء (عليها السلام)، فلعلّ الله بذلك يرحمنا عندما يرانا نعيش هذه الروحية الرساليّة التي كان أهل البيت (عليهم السلام) يعيشونها حتّى نزل القرآن ليخلّد فيهم هذه الميزة التي امتازوا بها عمَّن سواهم، فقال عزّ من قائل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 8 ـــ 11].
لقد أعطت فاطمة (عليها السلام) حبّها للإنسان كلّه، وارتفعت بهذا الحبّ إلى منزلة غدت معها غافلة عن آلامها لانشغالها بآلام الآخرين، وما ذلك إلاّ لأنّ الروحانية التي عاشت في قلبها فاضت على خصوصيّتها وأنْسَتْها ذاتها، ولأنّ الحبّ الإلهي الذي تملَّك قلبها امتدّ بها إلى حبّ الناس كلّهم، لأنّه مَنْ يحبّ الله لا يمكن أن يبغض أخاه الإنسان: "الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله"(1).
|
|
|