23-03-2013, 06:05 PM
|
#3
|
|
رد: اشكالات واهية
ثالثاً ـ كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟
ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلا خمس سنوات تقريباً وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟
والجواب: إن المهدي (عليه السلام) خلَّف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنه كان إماماً بكل ما في الإمامة من محتوى فكري وروحي في وقت مبكر جداً من حياته الشريفة.
والإمامة المبكرة ظاهرة مسبقة إليها عدد من آبائه (عليهم السلام) فالإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) تولى الإمامة وهو في الثامنة من عمره والإمام علي بن محمد الهادي تولى الإمامة وهو في التاسعة من عمره والإمام أبو محمد الحسن العسكري والد القائد المنتظر تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي (عليه السلام) والإمام الجواد (عليه السلام) ونحن نسميها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة على عدد من آباء المهدي (عليه السلام) تشكل مدلولاً حسياً عملياً، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة.
ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية:
أ ـ لم تكن إمام الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميين، وخلافة الخلفاء العباسيين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية والواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أسس روحية وفكرية.ب ـ إن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان، في داخل هذه القواعد تشكل تياراً فكرياً واسعاً، في بالعالم الإسلامي يضم المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ، حتى قال الحسن بن علي الوشا: إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ كلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.
ج ـ إن الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة شروط شديدة، لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان أعلم علماء عصره
د ـ إن المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة، لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل، وسجن من سجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات؛ وهذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلفهم غالياً ولم يكن له من الاغراءات سوى ما يحس به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفى عنده.
هـ ـ إن الأئمة الذي دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كل واحد من الأئمة الأحد عشر ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى وما كان قد أعتاده الشيعة من تفقد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمون الديار المقدسة من كل مكان لأداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.
و ـ إن الخلافة المعاصرة للأئمة (عليهم السلام) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة أنفسهم على الرغم مما يخلفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.
إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك، أمكن أن نخرج بنتيجة وهي: إن ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام، لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع لابد أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته مع ما تقدم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم وللأضواء المختلفة، أن تسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم.
فهل ترى أن صبياً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأى ومسمع من جماهير قواعده الشعبية فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلف نفسها اكتشاف حاله وبدون أن تكلف نفسها اكتشفا حاله وبدون أن تهزها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الإمام؟ وهب أن الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن أن تمر المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟
وإذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبي صبياً في فكرة وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلم الإمامة فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.إن التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة، عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أن الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.
والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها بينما لم يحدثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة أو واجه فيه الصبي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.
وهذا معنى ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليس مجرد افتراض، كما إن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات والزعامات الربانية ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت (عليهم السلام) يحيى (عليه السلام) إذ قال الله سبحانه وتعالى: (يا يحيى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكْمَ صَبيّاً)(3).
ومتى ثبت أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعد هناك اعتراض فيما يخص إمامة المهدي (عليه السلام) وخلافته لأبيه وهو صغير.
رابعاً ـ كيف نؤمن بأن المهدي قد وجد؟
ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول: هب أن فرضية القائد المنتظر ممكنة بكل ما تستبطنه من عمر طويل وإمامة مبكرة وغيبة صامتة فإن الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً، فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟
وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ـ للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهدي وجوداً تاريخياً حقاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟
والجواب: أن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، وقد أحصى أربعمائة حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله)ـ من طرق إخواننا أهل السنة(4) كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستة آلاف رواية(5)، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة.
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر (عليه الصلاة والسلام) فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به.
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين:
أحدهما: إسلاميوالآخر: علمي
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أما الدليل الإسلامي، فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والتي تدل على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت ومن ولد فاطمة ومن ذرية الحسين وأنه التاسع من ولد الحسين وإن الخلفاء اثنا عشر، فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفظ الأئمة (عليهم السلام) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته.
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها، فالحديث النبوي الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وإنهم اثني عشر إماماً أو خليفة أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلف.
قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين، ويلاحظ هنا أن البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري وفي ذلك مغزىً كبير، لأنه يبرهن على أن هذا الحديث قد سجل عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الإثني عشر فعلاً، وهذا يعنى أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له، لأن الأحاديث المزيفة التي تنسب على النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أن الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الإثني عشر، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى، فقال: (إن الخلفاء بعدي إثني عشر).
وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءاً من الإمام علي وانتهاءاً بالمهدي ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.
وأما الدليل العلمي، فهو يتكون من تجربة عاشتها أمة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى.
ولتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى:
إن الغيبة الصغرى تعبر عن المرحلة الأولى من إمام القائد المنتظر (عليه الصلاة والسلام) فقد قدّر لهذا الإمام منذ تسلمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ويظل بعيداً باسمه عن الأحداث وأن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أن هذه الغيبة إذا جاءت مفاجأة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الإسلامية، لأن هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كل عصر والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سببت هذه الغيبة المفاجاة الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله، فكان لابد من تمهيد لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج وتكيف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوابه والثقاة من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي.
قد أشغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم نزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي:
1ـ عثمان بن سعيد العمري.
2 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح.
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري.
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي (عليه السلام).
وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة، ولاحظت إن التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي (عليه السلام) بخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمري هو آخر النواب فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبر التحول من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها لأنها حصنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيف وضع الشيعة على أساس الغيبة وتعدهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين إلى خط عام وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.
والآن بإمكانك أن تقدر الموقف في ضوء ما تقدم لكي تدرك بوضوح أن المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس وعبر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحد كل هذه المدة تلاعباً في الكلام أو تحايلاً في التصرف أو تهافتاً في النقل.
فهل تتصور (بربك) إن بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشك ودون تأن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع وإيمانهم بواقعية القضية التي يدعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً ـ إن حبل الكذب قصير ـ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ولك هذه المدة وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حولها.
وهكذا نعرف أن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد.
خامساً ـ لماذا لم يظهر القائد إذن؟
لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة؟وإذا كان قد أَعَدَّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري، وقتئذٍ أبسط وأيسر وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي؟
والجواب: إن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلا عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف بالموضوعية، لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف.
ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها عل يد النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير:
منها: ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف.
ومنها: ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها مثلاً لينين في روسيا بنجاح كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرم العالمية الأولى، وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه على داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح.
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وإفراغ مرير استمر قروناً من الزمن.
فعلى الرغم من قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية وخلق المناخ المناسب لها خلفاً بالإعجاز لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب، لأن الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الرباني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع عن تدخل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحياناً فيما يخص بعض التفاصيل التي لا تكوِّن المناخ المناسب وإنما قد يتطلبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تشل وتفقد قدرتها على الحركة، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشركين الذين احدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب، إلا أن هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعميلة التغيير على العموم قد تكوِّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي (عليه السلام) لنجد أن عملية التغيير التي أُعد لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقت وفقاً لذلك.
ومن المعلوم أن المهدي لم يكن قد أعد نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك، لأن رسالته التي أدخر لها من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً وجواً عاماً مساعداً يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاذ عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب بالحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى مدركاً حاجته إلى العون، متلفتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.
ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.وأما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والإرادة العسكرية التي يواجهها القائد في اليوم الموعود كلما أجَّل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كل تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناء حضاري شامخ بأول لمسة غازية لأنه كان منهاراً قبل ذلك وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه.
|
|
|