|
منبر التربية الروحية للمواضيع التي تنمي التربية الحقة في السير الى الله تعالى |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
15-01-2024, 08:30 AM | #1 |
|
كظم الغيظ وتجنب الغضب
كظم الغيظ وتجنب الغضب عرفنا أن معظم ما يقع من اضطراب في العلاقة بين الناس، وما ينشأ عنه من اعتداءات وتشنُّجات، إنما هو بسبب البعد عن جملة من الصفات الحميدة التي أُمِرنا بالتحلي بها، والتمكين لها في نفوسنا، وتبيَّنَّا في الجمعة الماضية أولى هذه الصفات، وهي: صفة (الرضا)، ونتعرف اليوم - إن شاء الله تعالى – على صفتين أخريين، شديدتي الأهمية، بل هما سلوك لا يهتدي إليه إلا موفَّق، ولا يصبر عليه إلا فَطِنٌ خَبرَ حقيقةَ نفسه، فردعها عن اتِّباع هواها، وحجزها عن طاعة شيطانها، إنهما صفتا: (كظم الغيظ، وتجنب الغضب). نعم، الغيظ والغضب، اللَّذان يعتبران المسؤولينِ الرئيسين عن القلاقل الواقعة بين الناس، والتوتُّرات في علاقاتهم، بل هما أساس كثيرٍ من الأمراض المستعصية، كالسُّكَّر، وارتفاع الضغط، والقولون العصبي... حتى خرجت علينا الإحصائيات تقول: إن أَزْيَد من مليار من البشر يعانون من الاضطرابات العصبية، وقد أكَّد أحد الباحثين أنَّ هذا النوع من المرض - وبخاصة منه النِّسيان - سيكون سيِّدَ الأمراض في الأربعين سنة القادمة. قال - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133- 134]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أي: لا يُعمِلون غضبهم في الناس، بل يكفُّون عنهم شرَّهم، ويحتسبون ذلك عند الله - عز وجل"، وقال البغوي: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أي: الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه"، ومن ثمَّ قال أهل اللغة: "كظم غيظه: ردَّه وحبسه، وكظم الباب: أغلقه، وقوم كُظَّم: ساكتون"، وقال القرطبي: "كظم الغيظ: ردَّه في الجوف... ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه"، وقال المناوي في "التعاريف": "الغيظ أشدُّ الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه". فالغيظ غضبٌ شديد باعث على الانتقام، والإيقاع بالخصم، ممَّا يعود - غالبًا - على صاحبه بالأسى والندامة. قال ابن القيم - رحمه الله -: "إذا اقْتُدِحَتْ نار الانتقام من نار الغضب، ابتدأت بإحراق القادِح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحِلم، فإنه - أي: الغضب - كلبٌ إن أفلت أَتلف". عن وائل قال: "إني لقاعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل يقود آخر بِنِسْعَة - حبل مضفور من جلد - فقال: يا رسول الله، هذا قَتَل أخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقتلتَه؟))، قال: نعم، قتلته، قال: ((كيف قتلتَه؟))، قال: كنتُ أنا وهو نحتطب من شجرة، فسبَّني، فأغضبني، فضربته بالفأس على قَرْنِه فقتلته"؛ رواه مسلم. فانظر إلى جريرة الغضب - عند عدم التمكن من ضبط النفس الأمارة بالسوء، والرجوع إلى الله في الوقت المناسب - كيف تؤدِّي إلى سوء العواقب، ووُخوم النتائج. قال عطاء بن أبي رباح: "ما أبكى العلماءَ بكاء آخِرَ العمر من غضبة غَضِبها أحدهم، فتهدم عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم عُيَيْنة بنُ حصن بنِ حذيفةَ، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس، وكان الحُرُّ من النَّفر الذين يُدنيهم عمرُ، وكان القُرَّاء أصحابَ مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شبابًا... فاستأذن الحُرُّ لعيينةَ عند عمر، فلمَّا دخل عليه قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هَمَّ به، فقال له الحُرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله"؛ رواه البخاري، لقد أوشك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يعاقب عيينة، لولا تدخُّل الرفقة الصالحة من القراء حاملي كتاب الله. وقال أبو مسعود البدري: "كنتُ أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا من خلفي: ((اعلم أبا مسعود))، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني، إذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: ((اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود))، قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك منكَ على هذا الغلام))، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا"؛ رواه مسلم. وقال ابن كثير في "التفسير": "ورُوِي عن ميمونَ بنِ مهرانَ أن جاريته جاءت ذات يوم بصَحفة فيها مَرَقَة حارَّة، وعنده أضياف، فعثرت، فصبَّت المرقة عليه، فأراد ميمونُ أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله - تعالى -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال: قد عفوتُ عنك، فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرَّة لوجه الله - تعالى". فهل أنت من الذين وفقهم الله - تعالى - إلى تحقيق هذه الصفة العظيمة - صفة كظم الغيظ - وتمتع بآثارها الجليلة عليه وعلى غيره؟ عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه، دعاه الله - سبحانه - على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء))؛ رواه والترمذي وحسَّنه، وهو في "صحيح الجامع". فأيُّ فضلٍ أعظم من هذا، وأيَّة مكرمة يستحقُّها مَن كفَّ غضبه، وكظم غيظه؟! يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تجرَّع عبدٌ جرعة أفضل عند الله - عزَّ وجلَّ - من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله - تعالى))؛ رواه أحمد، وحسَّنه السيوطي. قال الطيبي: "وإنما حُمِد الكظم؛ لأنه قهر للنفس الأمارة بالسوء". وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَصَبَّرْ سَاعَةً يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإِلَهُ وَتُرْفَعُ الخطبة الثانية كيف تتمكَّن من كظم غيظك في الوقت المناسب إذا استبدَّ بك الغضب؟ هناك خطواتٌ عملية يكفيك الله بها شرَّ سَوْرَة الغضب، منها: 1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: في الصحيحين من حديث سلمانَ بنِ صُرَد قال: كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبَّان، فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد))؛ متفق عليه. 2- تغيير الهيئة من القيام إلى الجلوس، ومن الجلوس إلى الاضطجاع: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع))؛ "صحيح سنن أبي داود". 3- السكوت وتجنُّب ردود الأفعال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضب أحدكم فليسكت))؛ "صحيح الجامع"، وقال مُوَرِّقٌ العِجْلي: "ما امتلأتُ غضبًا قطُّ، ولا تكلمتُ في غضب قطُّ بما أندم عليه إذا رضيت". 4- أن يذكر أن الجزاء من جنس العمل، وأن في الكظم والصبر والعفو مغفرةَ الله - عز وجل -: كان مِسطَحُ بنُ أُثاثَةَ من الذين خاضوا في اتِّهام عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه، ويحسن إليه، فلمَّا أنزل الله براءة عائشة - رضي الله عنها - قال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطحٍ شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة، فأنزل الله - تعالى -: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يَغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إلى مسطح، وكفَّر عن يمينه؛ متفق عليه. 5- أن يتذكَّر قبح صورته عند هيجانه وثورته، مما لا يحب أن يراه عليه أحد في حالته العادية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كفَّ غضبه، ستر الله عورته))؛ رواه الطبراني، وهو في "صحيح الجامع". 6- أن يتذكَّر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يستعان به في مثل هذه المواقف: ومنه: ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب... وأسألك الرضا بعد القضاء))، وفي آخره: ((اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين))؛ "صحيح سنن النسائي".
|
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|