لماذا الإصرار على السلمية ؟
بقلم الاستاذ علي الزيدي
إمتازت التظاهرات والإعتصامات المطالبة بالإصلاح بالسلمية، فكانت هي سمتها الواضحة، وطريقها المختار . ولكن بعد أن أعتدي على المتظاهرين بالرصاص الحي ورمي القنابل المسيلة للدموع، لماذا الإستمرار بالتظاهر والإصرار على السلميّة ؟ خصوصاً بعد أن سالت دماء الشهداء وكثرة اصابات الجرحى وإختناق المئات من المطالبين بالإصلاح، حتى عدّ هذا الإعتداء على المتظاهرين العزل إرهاباً حكوميا مورس ضد الشعب وبإمتياز عالي .
ويمكن الإجابة على هذا التساؤل بما يلي :
أولاً: حاولت امريكا وبعض دول الجوار إيجاد عدّة محركات، الغرض منها ترسيخ شعور إقليمي وعالمي، يرتكز على أن الشعب العراقي هو شعب غير حضاري، وأنّه يعشق ويلتذ بالدماء والتخريب، ويغرق في بحر عميق من الفوضى، مضافا الى جهله بما فيه صلاح أمره، وبالتالي يستطيعون إيجاد المسوغ والمبرر القانوني للتدخل بالشأن الداخلي لهذا البلد، وإن كان مبطنا بعناوين إنسانية يبارك فيها الرأي العام، أو حتى لو كانت تجاوزات وخروقات، لكن بوجود إتفاقات بين الدول المستفيدة من تمزيق العراق، يتم التغاضي عنها لوجود المصالح المشتركة بينها .
فلذلك كانت هذه التظاهرات والإعتصامات المطالبة بالإصلاح سلمية وبمنتهى الدقة، لكي تكون ردّاً عملياً على هذا النهج الإستكباري في تشويه الحقائق وتضليلها، وليعرف المجتمع الدولي بأن الشعب العراقي شعباً حضارياً يعشق السلم والسلام، لأنهما من صميم الإنسانية التي ينطلق من خلالهما البناء والتطور العلمي وعلى كافة الأصعدة والمجالات، ومن ثم خلق دولة يسودها القانون الإنساني العادل الذي يتساوى فيه الجميع بلا استثناء بعيداً عن تدخل أية دولة كانت .
وعلى هذا الأساس بقي الشعب متمسكاً بسلمية التظاهر بالرغم من وقاحة وقباحة رد حكومة الفساد ضد المتظاهرين العزل .
علماً لو حدث هذا الأمر في أية دولة وإن كانت متقدمة، لكان الحال غير هذا الحال، ولعمت الإضطرابات والفوضى في كل مكان، ولتم السلب والنهب والقتل وإحراق المحلات التجارية وبشكل عشوائي، ولا أريد أن أعطي شواهد وأمثلة على ذلك لأنها أشهر من نار على علم .
ثانياً: ان هذه السلمية تعبر عن شدة إنضباط المتظاهرين وطاعتهم الكبيرة لراعي الإصلاح، فهم في هذه الحالة ليسوا فوضويون وإنما لهم قيادة عندها البعد الإنساني لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال، ولذلك فإن هذه السلمية المفروضة كأمر واقع في ساحات التظاهر والإعتصام تمثل مدى العمق والجديّة لتطبيق مبادئ السلم والسلام في نهجها وتحركها، وبالتالي سوف تعبر عن منطلق أساسي عند القيادة الحكيمة ، على المجتمع العراقي ودول الجوار أن تفهم هذه الرسالة، وأن تتعامل مع هذه القيادة بأوراق مفتوحة، لأنها أمام زعامة لها من سعة الصدر ما لا يحتمل، بالرغم من قاعدتها الجماهيرية التي لا يستهان بها، ولو كانت هذه القيادة بيد الآخرين لفعلوا ما فعلوا . ولكن هذه هي أخلاق وسجايا رجال الإصلاح الحقيقيين، فعلى الآخرين أن يستغلوها لبناء عراق جديد خال من كل أنواع الفساد .
ثالثاً: أبرزت هذه السلمية مدى عمق طاعة المتظاهرين لهذا الأمر، والشيء العجيب أنه لا يوجد أي خرق لهذه السلمية من قبل المتظاهرين ولحد كتابة هذه السطور، مما يدل على وجود وعي عالي لفهم مراد قيادتهم، هذا بالتالي سيجعل من المتظاهرين أن يكونوا مؤهلين لطاعة الأمور الأشد والأصعب من هذا الأمر، وذلك لأن الإنسان كلما إستطاع أن ينجح في أمر ما، إستحق أن يصل الى إستحقاق آخر ولمرتبة أعلى تكون أكثر توفيقاً وأوفر حظاً في كسب المنجزات الإصلاحية سواء على مستوى الشدة والعمق أو السعة والشمول . وذلك لأن الطاعة – ( وأنا أقصد الطاعة الحقة وليست طاعة الشيطان فإن لها أيضاً مراتب تسافلية ) – هي مرتبة من مراتب الكمال والرقي الإنساني، كلما إشتدت لدى الفرد تنفتح أمامه سبل الهداية والتوفيق بشكل أوسع وأكبر، وحينها سيرى من الخير ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وأريد أن أشير هنا بما يناسب المقام بأن علياً عليه السلام ما كان ليصبح علياً لولا طاعته لرسول الله صلى الله عليه وآله .
رابعاً: إن ثبات المتظاهرين العزل أمام هجوم جلاوزة الفاسدين بالأسلحة النارية – بالرغم من سقوط الشهداء والجرحى- وبقاءهم في مكان التظاهر مع شدة الموقف وصعوبته، والصبر على أفعال حكومة الفساد الهمجية، يدل على وصول المتظاهرين الى مرتبة من مراتب الشجاعة والصبر على الشدائد، لا يمكن الإستهانة بها وتقليل شأنها .
فهي لعمري مرحلة من مراحل التضحية العالية لديهم، كانوا فيها كهابيل في صبره على قباحة فعل أخيه قابيل عندما أقدم عليه ليقتله فقال له : ( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ) المائدة ٢٨ – ٢٩ .
وكذلك إستمدوا شعاعاً من صبر أمير المؤمنين عليه السلام عندما اعتدوا على ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله، وعندما سلبوا الخلافة منه عنوة، ولم يشهر سلاحه في وجوه القوم بالرغم من مقدرته على ذلك .
فهي إذن مرحلة من مراحل مواساة الانبياء والأئمة عليهم السلام، في محنهم وبلاءاتهم التي مروا بها، لابد للمصلحين أن يمروا بها ويعيشون معاناتها، وتحمل شدة آلام وقعها، كل ذلك لتستمر حلقة التواصل والإمتداد بين المؤمنين جيلاً بعد جيل، منذ عهد أدم عليه السلام والى وقتنا الحاضر والى يوم الظهور المبارك، ليكون الإمام المهدي عليه السلام مركز وقطب هذا الإمتداد والتواصل .
هكذا أراد الله تعالى من أوليائه وأنصاره، أن يكون موردهم وسيرهم واحداً، يسقون من بلاءات واحدة، وهموم واحدة، وصبر واحد، وكما قال عزّ من قائل : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء - ٨٢، ولكن كل بحسبه وشأنه، ليوردوا يوم الآخرة مورداً ماؤه رياً روياً هانئاً لا ضمأ بعده ولا هماً ولا غما .
خامساً: هناك مرحلة مهمة جداً يحتاج أن يمر بها كل من ينتظر الإمام المهدي عليه السلام، هذه المرحلة هي مرحلة التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى، وذلك عندما ينقطع عنك الناصر، وتقل فيه الحيلة، فتصبح أنت والأهوال والمخاطر كما خلقك الله عزّ وجلّ، بلا آلة تدافع فيها عن نفسك، أو قدرة على تخليصها من خطر محدق بها، وهنا أنا لا أقصد من يكون هكذا حاله، وهو تسوقه الصدفة أو الأقدار، أو سوء تصرف معين يؤدي به الى هكذا نتيجة . وسأبين هذا المطلب بشكل أوضح وكما يلي :
في الغالب إن الذين يقعون بالأخطار ويصارعون الأهوال، يعيشون هذه الحالة وهم مجبرون عليها، أي أنهم لا يملكون خياراً غير الذي هم فيه، ولذلك يسلمون أمرهم لله تعالى كمؤمنين يؤمنون بالأقدار وبما كتب الله تعالى لهم .
ولكن أن يأتي شخص بإمكانه أن يدافع عن نفسه ويواجه الفاسد بالسلاح، لإستحصال حقوقه ومكتسباته الإنسانية، أو يختار طريقاً آخر بعيداً عن الخطر والهلاك، بحيث يكون راضياً بما يجري حوله من ظلم وفساد، لكنه يمتنع عن فعل ذلك، من أجل أن يعيش تجربة الإختيار الحُر، الذي يواجه فيه الإختبار والبلاء الصعب، أو قل إختبار نيل الشهادة من دون أن يدافع عن نفسه بآلة، مسلماً روحه كقربان لوطنه في سبيل الإصلاح، لا يعبأ بسلاح الفاسدين الموجه ظلماً بوجهه، ويبقى هاتفاً – سلمية ، سلمية – ليس له أمل بالنجاة إلّا بالله تبارك وتعالى وعنايته بعباده المخلصين، الذين وضعوا أرواحهم على كفوفهم ولبسوا القلوب دروع، لتكون رسلاً للسلام، وتحقيق هذا المعنى بأعلى وأكمل مصاديقه، ليكونوا بالتالي محط أنظار العالم لصفاء نياتهم وطهر مراضعهم، وليعلم العالم بأن العراق سيبقى رافداً يمد الوجود بأمثال هؤلاء الرجال، فهذا هو العطاء الذي يرتجى منه الفرج والفتح الإلهي القريب .
سادساً: نحن الآن في العراق هناك من يتربص بالمصلحين والمتظاهرين السوء، ويبحث عن أية فرصة للقضاء عليهم، خصوصاً وإن المتضررين من عملية الإصلاح في هذا البلد الجريح هناك من يدعمهم من أصحاب القوى والنفوذ الإقليمي والعالمي، ولا يستبعد من انهم ينتظرون اية حركة تخرج عن مفهوم السلمية ليعتبروها خرق قانوني، ومن ثم سيجدون المبررات لضرب المتظاهرين والقضاء عليهم، ونسف مطالبهم التي خرجوا من أجلها .
وعليه سيبقى المتظاهرون في الظرف الراهن شعارهم ( سلمية ، سلمية ) لأنهم يتعاملون بمطالبهم وتحقيقها ضمن ضوابط وحدود الديمقراطية المدعاة في هذا البلد، هذه الضوابط تعطي لهم الصلاحيات بالخروج من أجل إصلاح ما فسد في أجهزة الدولة، ولكن من خلال القنوات المسموح بها للتغيير، ومن هذه القنوات هو التظاهر السلمي، ولذلك نحن متمسكون بالسلمية الى أن ينتصر الدم فيها على السيف، وهذا الإصرار على التظاهر السلمي، هو الآن الكفيل بإسقاط جميع الأقنعة عن تلك الوجوه الغبراء التي أرهقتها ذلّة استعباد الآخرين لهم من دول الجوار وغيرها، وكذلك إسقاط جميع الأوراق المحتملة من قبل المفسدين للنزول بها الى الشارع .
علي الزيدي
١٣ / ٢ / ٢٠١٧